الثلاثاء، 10 فبراير 2009

حكـام العـالم الجـدد (1)*


جون بيلجر*
ترجمة الباحث: أمير جبار الساعدي


عندما فكر نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ان: الحرب ضد الإرهاب "قد تستمر خمسين سنة أو أكثر كان قد اقتبس كلمات من الكتاب التنبؤي" للكاتب جورج اوريل الموسوم (1984) لذلك يبدو ان علينا العيش مع تهديد وأوهام حرب أبدية لإرضاء اضطهاد الدولة والسيطرة الاجتماعية المتزايدة بينما تسعى الدولة العظمى لتحقيق هدفها في التفوق العالمي. لقد تحولت واشنطن إلى المدينة الرئيسة لمهبط الطائرات رقم(1)وترى ان كل مشكلة سببها العدو وهو"غولدستين" الشرير كما سماه اوريل وقد يكون إسامة بن لأدن أو خلفائه أي"محور الشر". هنالك في رواية اوريل ثلاث شعارات تحكم المجتمع وهي: الحرب هو السلام والحرية هي العبودية والجهل هو القوة؛ وشعار اليوم "الحرب ضد الإرهاب" أيضا يقلب المعنى فالحرب هي الإرهاب.ان أقوى سلاح في هذه الحرب هو الإعلام الزائف وهو يختلف شكلا فقط عما وصفه اوريل الذي يرجع الحقائق غير المقبولة والحس التأريخي إلى النسيان. كما ان الخلاف جائز ضمن حدود الأطماع "الرضا المتبادل وهذا يعزز الوهم بحرية المعلومات والكلام(الحديث). ان هجمات 11ايلول(سبتمبر)/2001 لم تغير كل شيء لكنها سرعت من تعاقب الأحداث إذ قدمت عذرا استثنائياً لنسف الديمقراطية الاجتماعية ويعد تعليق ميثاق الحقوق في الولايات المتحدة والتفكيك الكبير لمحكمة المحلفين في بريطانيا وزيادة الحريات المدنية ذات العلاقة شكل هذا وجزءاً من تقليص الديمقراطية إلى مجرد طقوس انتخابية أي بعبارة أخرى تنافس أحزاب غير مميزة من اجل إدارة دولة أحادية الإيديولوجية وتعتبر الدوائر الإعلامية مهمة لازدهار دولة الأعمال التي تحظي بنفوذ لا نظير له إذ تسيطر على التلفزيون ونشر الكتب وإنتاج الأفلام وقواعد البيانات وتقدم عالما افتراضيا إلى الحاضر الأبدي كما دعته مجلة تايمز السياسية بالإعلام والحرب والعدالة بالإعلام وحتى الحزن بالإعلام (وفاة الاميرة ديانا) "فالاقتصاد العالمي" أهم مشروع إعلامي.
والاقتصاد العالمي هو أيضا مصطلح حديث لاوريل. إذ ترى على السطح التبادل المالي الفوري والهواتف النقالة ومطاعم مكدونالد والستاربكس وقضاء العطل بالحجز عن طريق الانترنيت وتحت هذا البريق نرى عولمة الفقر نرى عالما لا يتمكن فيه معظم الناس من اجراء مكالمة هاتفية. ويعيشون بدخل أقل من دولارين في اليوم، عالما يموت فيه (6000) طفل يوميا بسبب الاسهال لان معظمهم لا يتوفر له الماء الصالح للشرب. وفي هذا العالم الذي لا يراه معظمنا في شمال الكرة الارضية ظهر نظام متطور من الاحتيال أرغم أكثر من تسعين بلداً على نهج برامج"التكيف الهيكلي"منذ الثمانينات ووسع بذلك الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة أكثر من ذي قبل وهذا ما يسمى بناء الدولة "والحكم الرشيد"من "الرباعي" الذي يبسط نفوذه على منظمة التجارة العالمية (الولايات المتحدة واوربا وكندا واليابان) وثلاثي واشنطن(البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والخزانة الامريكية) التي تسيطر حتى على أدق جوانب سياسة الحكومات في الدول النامية ، جاء نفوذ هذه الدولة اساسا من الدين الذي يرغم الدولة الفقيرة على دفع (100مليون دولار) يوميا الى دائنيهم في الغرب والنتيجة عالم تسيطر فيه النخبة وهي أقل من مليار نسمة على 80% من ثروة الانسانية. ومما ساعد على تنامي هذه الحالة المؤسسات الاعلامية متعددة القوميات في امريكا واوربا التي تملك او تدير ابرز مصادر الاخبار والمعلومات في العالم وقد حولت هذه الدوائر معظم جوانب "مجتمع المعلومات". الى عصر تتيح فيه التكنولوجيا المتقدمة التكرار المتواصل للمعلومات(الامنة) سياسيا والمقبولة لدى بناة الدولة([1]): تعلمنا في الغرب على ان نرى المجتمعات الأخرى من زاوية عدم الاستفادة منها وكذلك تهديدها "لنا" واعتبار الاختلافات الثقافية أكثر أهمية من القوى السياسية والاقتصادية التي نحكم من خلالها على أنفسنا ويكتم الاشخاص من ذوي المصادر النادرة لفهم هذا، وبضمنهم من يدرسون ويبحثون في أبرز الجامعات ويكتمون معرفتهم علناً، وربما لم يصادفوا أبداً مثل هذا الصمت المطبق.

ينطلق هذا الكتاب "حكام العالم الجدد" لايضاح بعض التفاصيل عن هذا النظام الجديد وأهمية كسر الصمت الذي يحمي القوة العظمى واستغلالها خصوصا هذه الحرب الجارية ، يتألف الكتاب من أربع مقالات تبدأ بمقالة "التلميذ النموذج" وهي تحكي قصة كيفية تورط الاقتصاد العالمي في اسيا بحمام الدم الذي أتى بالجنرال سوهارتو الى الحكم في اندونيسيا بين عامي(1965-1969) وتعتمد على وثائق كشف عنها النقاب مؤخرا تصف اجتماعا بالغ الأهمية بين ابرز أصحاب الشركات الكبرى نفوذا جرى في عام 1967 حيث رسموا فيه بنية الاقتصاد الأندنوسي قطاعا قطاعا. وقد أخبرني جيفري ونثرز الاستاذ في جامعة نورث ويسترن بولاية شيكاغو أنه جرى تنفيذ ذلك تنفيذا مثيرا جدا. فقد انقسموا الى خمس مجموعات مختلفة، التعدين في غرفة والخدمات في غرفة أخرى والصناعات الخفيفة في غرفة والصيرفة والمال في غرفة أخرى وترى رجال الاعمال هؤلاء يجلسون حول الطاولة ويقولون (الشعب سوهارتو) هذا ما نريده: هذا وهذا، كما بدأوا اولا بصياغة الاساس القانوني للاستثمار في أندونيسيا. وكانت النتيجة تسليم جبل من النحاس والذهب والنيكل والبوكسيت للشركات الأمريكية عابرة الحدود القومية واستحوذت مجموعة شركات أمريكية ويابانية وفرنسية على الغابات الاستوائية في سومطرة وغيرها. وسألت أحد ممثلي سوهارتو في الاجتماع عام (1967) ويدعى أيمل سليم قائلا:هل ذكر احدكم المليون شخص الذين لقوا حتفهم في أحداث العنف التي اتت بالاقتصاد العالمي الجديد الى أندونيسيا وأجاب "كلا لم يكن ذلك في جدول الاعمال اذ لم يكن لدينا تلفزيونا حينها". لم تجلب أبشع مجزرة في النصف الثاني من القرن العشرين ذلك الكم من الأخبار الذي يدعو الى الاحتفال. وعندما أصبح رابع أكبر بلد في العالم من حيث السكان"ملكنا". كانت سيطرة سوهارتو على الحكم من "أفضل التغطيات الأخبارية في الغرب لسنين عدة". وأخبر جيمس ريستون عميد المحررين الأمريكيين قرار(نيوروك تايمز) أن الاحداث الدموية في أندونيسيا كانت "وميض من نور في اسيا". ويتفق المثقفون الأندنوسيون في جامعاتنا على اعتبار كذبة سوهارتو الكبرى بشأن "الانقلاب الشيوعي" سببا في عمليات القتل، بينما تخفف المؤسسات الغربية من أزمة "استقرار" نظامه، لقد أستمر الصمت لاكثر من ربع قرن حتى كسرته صيحات ضحايا سوهارتو في تيمور الشرقية وهي المجزرة الثانية التي ترتكب بمساعدة القوات الغربية.
ويعرض هذا الفصل الذي يعتمد فلمي الوثائقي "حكام العالم الجدد" برنامجاً آذاعياً تم بثه عام2001 ومنه أخذت عنوان هذا الكتاب، والجديد هنا يحتاج الى تأهيل. فالرواية التي تدمج أربعة فصول هي ارث للامبريالية "القديمة" وعودتها الى واجهة الاحترام بعنوان "العولمة" "والحرب ضد الارهاب" وأحياناً يسيء البعض في فهم "الحكام الجدد" على أنها شركات متعددة القوميات وأغلبها أمريكية وهي التي تسيطر على "التجارة العالمية" من المؤكد ان ضخامتها ومستوى عملياتها جديد. إذ تفوق ميزانية شركة فورد للسيارات اقتصاد جنوب أفريقيا وتفوق ثروة جنرال موترز ثروة الدنمارك مع ذلك، فالاعتقاد السائد بين مناهضي العولمة أن الدولة قد "ذوت بعيداً" ما هو الا تضليل. وكذلك فكرة ان قوة الشركات العابرة للحدود القومية قد حلت محل الدولة وبشكل أوسع الامبريالية. كما ذكر الاقتصادي الروسي المعارض بوريس كانمالتسكي إن العولمة لاتعني ضعف الدولة ،ولكن تعني رفض الدولة لمهامها الاجتماعية لصالح مهامها القمعية ونهايات الحرية الديمقراطية. ويسعى فصل "اللعبة الكبرى" الى كشف الطرق التي تقدم بها قوة الدولة المتخفية هذه الشروط والامتيازات التي تحمي الأسواق الغربية في الوقت الذي تسمح فيه للشركات الغربية بالتدخل اينما تشاء في هذا العالم كما فعلت في أندونسيا. وتعمل القوة الثابتة للدولة الامبريالية اليوم"يدأ خفية" وكذلك القبضة الحديدية للراسمالية المتفشية. ولا جدال في قدرة الالة العسكرية الأميريكية على سحق الدول الفقيرة شرط تواجد القوات البرية الأمريكية وتبادلها مع قوات وطنية او متحالفة. اما الاستثناء فكانت فيتنام . فبالرغم من استخدام القوات الامريكية لقاذفات (B-52) وقنابل النابالم والمواد الكيمياوية والتفوق العددي للقوات، فلم يوفقوا بين المعرفة والتذكر ان هناك شعبا مستعدا لطرد الغزاة. كان هذا درساً للامبريالية.
وفي أفغانستان لم يقتل لحد الان سوى بضعة جنود أمريكيين. وأفادت تقارير قادة المجاهدين ان قاذفات (B-52) دمرت قرى من الصغر بحيث لا تظهر على أي خريطة وقتلت فيها حوالي 300 شخص في ليلة واحدة فقط. وذكر ريتشارد لليوباري في تقرير نشرته صحيفة الاندبيندنت ان هذه القاذفات قتلت عائلة مؤلفة من 40 فردا ولم ينجو منها سوى صبي صغير وجدتهِ. اما ما غاب عن انظار كاميرات التلفزيون،فقد قتلت القنابل (3.767) مدنيا على الاقل بين السابع من تشرين الأول والعاشر من كانون الأول أي بمعدل 62 مدنيا في اليوم ،وهذا طبقا لدراسة واحدة لا غير. كل هذا في بلد بلغت اخر ميزانية سنوية له 83 مليون دولار أي عشر كلفة القاذفات (B-52). وقد ورد هذا في الاعلام الداعم "كتبرير" او انتصار الافكار، انتصار الخير على الشر، بوجود المحررين والكتاب الثرثارين المنادين باعتذار من اولئك الذين يرددون الدعائية الإعلامية. وحتى كتابة هذا الكتاب لم يقبض أو يقتل حسب علمنا على أي فرد من قادة تنظيم القاعدة وبضمنهم الزعيم الأول بن لادن كما لم تتم تصفية الزعيم الثاني ملا عمر قائد حركة طالبان. ومن المؤكد ان لا أحد من تورط تورطاً مباشرا في هجمات 11 من ايلول/سبتمبر كان أفغانيا، فمعظمهم سعوديون تلقوا تدريباً في المانيا والولايات المتحدة، ولم يقدم أي منهم الى المحاكمة: ومع ذلك فالالاف من الابرياء في قرى يعلوها الغبار وغير منظورة قد صدرت بحقهم عقوبة الاعدام دون محاكمة او طبقا لاسلوب رعاة البقر في الغرب الأمريكي، والمزيد من الابرياء بانتظار بتر أعضائهم في السنوات المقبلة بفعل عشرات الالاف من القنابل العنقودية غير المتفجرة. فضلا عن ذلك فالتغيير الحقيقي في أفغانستان في مستواه الأدنى. فما زالت النساء لا يتجرأن على الخروج سافرات وما زال الشعب واعيا لعهد الاقطاع. وذكر وزير العدل الجديد من النظام الذي نصبته واشنطن ان حركة طالبان كانت تشنق وتعلق جسد الضحية أمام الناس لأربعة أيام، اما نحن فسوف نعلق الجثة لوقت قصير حوالي 15دقيقة بعد الاعدام العلني إن وصف هذا العمل بالانتصار وهو أشبه بالثناء على تفوق آلة الحرب الالمانية واعتبارها تبرئة للنازية.

وفي عصر الإعلام، نجد التجاهل هو القوة والفعل القياسي للاهمال. مجرد فحص دقيق للاسباب الحقيقية لاحداث 11من ايلول/سبتمبر يدعونا الى قذف العين بالافتراءات. وكتب ديفيد مكنايت الصحفي والاكاديمي الاسترالي ان "اشخاصا مثل جون بيلجر ونعوم تشومسكي ظهروا لتبرئة مرتكبي هجمات 11من ايلول/سبتمبر هو أن قتل الاف الابرياء ليس له ما يبرره سواء في أمريكا او أي مكان اخر. وبالنسبة لمكنايت ومن يقلدهم فان مسألة قتل الابرياء في أفغانستان هي "المكافىء العالمي لسياسة الاغارة على وكر المجرم" بضمنها المواجهة العنيفة التي لا مناص منها احيانا في اعتقال المجرمين". إن مسألة حق الفلاحين الأفغان في الحياة مثلما هو حق سكان نيويورك من القضايا التي لايصح ذكرها، بل هي تدنيس للمقدسات. اما مسألة التدمير الوحشي لقراهم رغم عدم وجود مقاتل واحد من طالبان او القاعدة، فهي مسألة "لا يمكن تجنبها". وبعبارة أخرى إن حياة بعض البشر أغلى من حياة أخرين وإن قتل نوع واحد فحسب من المدنيين هو ما يعد جريمة. لقد تغذى ارهابيو اسامة بن لادن وجورج بوش الابن على هذه الكذبة القديمة. وهما مرتبطان تأريخياً كذلك. فقد قامت وكالة الاستخبارات المركزية "بعملية الاعصار" التي دربت وسلحت من خلالها 35 الف (متعصبا) أصبحوا فيما بعد اعضاء في طالبان والقاعدة. وكما ذكر جون كولي في كتابه المميز الحروب غير المقدسة: أفغانستان وأمريكا والارهاب الدولي ان "حكومة رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر دعمت الجهاد الممول أمريكيا بحماس شديد" ومعظمه جرى بتعاون ضابط الاستخبارات البريطانية في أسلام اباد. لقد أطلقوا العنان بحرية لاسامة بن لادن. وكلف هذا دافعي الضرائب الامريكان 4 مليارات دولار. ومن المفروض ان اعلان هذه الحقائق هو واجب الصحفيين والمفكرين، ولكن لم يحدث شيء من هذا القبيل. وفي أوج القصف الأمريكي على أفغانستان كرمت جريدة "الاوبزيرفر" ناشرها العظيم ومحررها ديفيد استور في ذكرى وفاته، الذي عبر عن معارضته للهجوم البريطاني على السويس عام 1956 بقوله ان صحيفة "دفعت الحكومة الى مهمة من أجل ان تستأسد ،وهي بذلك تعرف جريدة الاوبزيرفر بوصفها جريدة متحررة فكريا ومستعدة للسباحة ضد تيار التعاطف الشعبي". كما وصف استور "محاولة اعادة فرض امبريالية القرن التاسع عشر من النوع الاقسى". اذ ذكر "يقال ان الشعوب تحصل على ما تستحق من الحكومات. لنبرهن اننا نستحق ما هو افضل". وعلقت الاوبزيرفر على ذلك بقولها "ان غنى اللغة وصلة العواطف لها صدى واسع اليوم. فالكلمات كانت اقرب الى السريالية وتم اختيار السخرية بعناية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جون بيلجر الكاتب والصحفي والمنتج التلفزيوني الأسترالي المقيم في بريطانيا.
* كتاب (The New Rulers of The World. John Pilger, 2002) ترجم ونشر في مركز الدراسات الدولية جامعة بغداد سنة 2003.
[1] مفهوم جديد بدأ يدخل في الادب السياسي الامريكي ويعني وضع القواعد والاسس المقبولة غربيا (أمريكيا) لبناء دولة ما (في العالم الثالث خصوصا) على وفق النهج والقيم الامريكية Nation Building.

ليست هناك تعليقات: