أمير الساعدي
يقول هنري كيسنجر "إن
التاريخ هو ذلك المنجم الزاخر بالحكمة الذي نجد فيه المفاتيح الذهبية لحل مشاكل
عصرنا، شريطة أن نعرف أين نضرب معاولنا".
فمع فارق المقارنة والمقاربة
بين صلح الحديبية وما تحقق من إنجاز لإيران بكسب جولات التفاوض حول ملفها النووي
مع دول دائمة العضوية في مجلس الأمن زائدا ألمانيا، والتي دخلت عالم الحرب الباردة،
والحرب بالأنابة ... وهذا بعضا مما أستدرجني لتسمية هذا الاتفاق بصلح الحديبة إيذانا بإعلان قطع العقوبات مثلما فعلت قريش ومن معها مع نبي الله محمد (ص)
وأنصاره ومهاجريه والبدء بالتعاون التجاري والاقتصادي بين الدول الاطراف بالتفاوض
مع إيران لبداية مرحلة جديدة من التعاون المشترك والاستثمار، وكان هذا ما حدث
بالتبادل التجاري بين المدينة ومكة والقرى التي يسيطر عليها كل جانب وإنعاش رحلة
القوافل التجارية بين اليمن ومكة والشام، وما حصل بان ترفع العقوبات بعد عام من ابرام إيران والدول الست الاتفاق النووي ومثله أرجعت قريش الحجاج المسلمين ان يعودوا بعد عام، وكذا الامر للمدة الزمنية التي أبرم
الاتفاق عليها كانت لعشر سنوات في أحد بنوده المخصصة بجانب التخصيب ولهذا يقول أحد
المشرعين الأمريكيين "وفي النهاية حتى لو احترمت إيران جميع تفاصيل الاتفاق فهو
يضعها على الطريق لامتلاك أسلحة نووية في غضون ثماني أو عشر سنوات". واجمعت
الاطراف الموقعة على عدم خرق أيا من بنود الاتفاق وهي فترة أختبار لطرفي الأزمة
والتي ستجعلهما يقييمان تعاون كل طرف بإنفاذ ما تم التوافق عليه، والذي حصل في صلح
الحديبية وثق وشدد فيه على التمسك ببنود الهدنة وإن خرق أيّ من طرفي الاتفاق على
ضوء ما جاء به سيكون الصلح لاغيا ويحق للطرف الأخر شن الحرب لدرء الاخطار وأرجاع
الحقوق ونشر السلام بين ربوع جزيرة العرب وما حولها حفاظا على الاسلام لمدة عشرة
أعوام...
فصعود نجم المفاوض الإيراني
وكسبه هذه الجولة يستدعي أن لا ينسى دروس التاريخ وأين يمكن أن يضرب معوله؟، فإدارة
الأزمات هي إدارة استشرافية تتوقع وتوجد الاحتمالات لما سيحدث، والذي قد يكون مرفوضاً
واشارة نحس في نظر بعض القيادات التي تزاول العمل بتفاؤل كبير... فمازالت الفواعل
الدولية تراقب وتترقب إن ما أطلقت عليه "محور الشر" يوما أن يسقط في فخ
نفسه أو ستسقطه هي في كمين أعدت له مسبقا، فكم سيدوم الصلح بين تلك الاطراف وإيران
؟؟ ففي الوقت الذي أستعادت إيران قوتها الإقليمية بشكل يوازي قدرتها على كسب الدوري
في مباريات النخبة مع مجموعة (5+1) فإن باقي أطراف التوازن بالمنطقة لن تدع الأمر
يمر من غير اللعب الخشن أو الدهاء بكسب ود الحكم (الفاعل الدولي) مثلما فعلت
دائما.. فلم يتخلى اللاعب الدولي يوما عن مصالحه، فهو يقوم بتأجيلها شوطاً أو
مباراة ولكن من المؤكد بأنه سيرجع الى ستراتجيته الاولى التي تؤخر مشاريع النهضة
والتقدم في المنطقة وتمرر كل أهدافه ليصل الى تحصيل مصالحه، فأنظر الى ما يقوله
جون كيري وزير الخارجية الأمريكية في لقاء متلفز عن الاتفاق النووي الإيراني "لقد قلت إنهم عدوّ ولا يزالون،
لا نزال أعداء، ولسنا حلفاء أو أصدقاء بأي شكل من الأشكال. هذا الاتفاق يحقق شيئا واحدا" ؟.
فمشروع أمريكا بالمنطقة لا يمكن تجاوزه بسهولة ولا سيما (مشروع الشرق الأوسط الكبير(الجديد) ولهذا هي ترى بأنه من الأنسب في هذه المرحلة التصالح مع إيران ولكن لا
يمكن أن تتناسى بأنه وقف بوجه إنجاز مشاريعها بشكل أسرع بالمنطقة وهي تطلق لاعبها
الالكتروني بحرب عصابات أعدت بالمطابخ المخابراتية وستوديوهاتها الهوليودية بأرسال
إرهاب جرادها داعش لتستبيح بعض دول المنطقة وخارجها فيما بعد لارغامنا على طلب
قبول مشروعها بتقسيم وتفتيت دول المنطقة...
عمدت سياسة المسلمين بعد
إبرام الصلح الى كسب المزيد من الأحلاف مع قبائل المنطقة، فهل سيؤول الأمر بإن
تزيد إيران من حلفائها المعترضين عليها أولاً وهي تقوم عبر سياستها الخارجية
بتطمين زعماء المنطقة وكسب ودهم ودعمهم عبر شراكات ستراتيجية أو حتى مرحلية لغرض
تجاوز تصدع العلاقات الثنائية بين تلك الاطراف الإقليمية وإيران، والعمل على
الدخول بمزيد من الأحلاف أو المجموعات الاقتصادية والسياسية لدعم مركزها بالمنطقة
وتقوية موقفها فيما بعد المدد الزمنية للاتفاق النووي مع المجتمع الدولي مثل منتدى
"بريكس" ... وعلى نفس المنوال تحاول الإدارة الأمريكية أيضا تهدئة مخاوف
المنطقة من الاتفاق الأخير بينها وإيران حيث يقول جون كيري "إن الاتفاق يزيل الخطر
عن دول المنطقة"...
كيف سيكون النصر مستداما
بالنسبة لإيران خلال الاعوام العشر القادمة؟ حتى يمكن أن تحقق نصر الفتح الذي حققه
فيما بعد صلح الحديبية بفتح مكة وزيادة قوة المسلمين وصلابة شوكتهم لتنطلق صوب
باقي جزيرة العرب وخارجها، هل ستفاجئ العالم بما كان يتخوف منه وشدد العقوبات
عليها بسببه بأن تعلن أمرا يوازي قوة "القنبلة النووية"؟؟ هذا إذا ما تم
خرق الاتفاق وأصبحت تهديدات "إسرائيل" جدية، وإن كان الاتفاق نص على تجديد العقوبات
على إيران وزيادتها حسب جدول زمني أتفق عليه، فمازال باستطاعتها تطوير اسلحتها
التقليدية والبالستية وكذا قد تفعل مع باقي ترسانة اسلحتها فهدف مجموعة الدول الست
الكبرى هي أمن مصالحها وبقاء كيان إسرائيل دولة قوية بالمنطقة، وليس الحفاظ على الاستقرار
والأمن والسلام بالشرق الأوسط مثلما تدعي لأنها فشلت فشلا ذريعا بتجربتها بإنفاذ
بنود اتفاق الأطر الاستراتيجية بعيدة المدى مع العراق فيما يخص أمنه واستقراره
الذي هو جزءً مهماً من أمن المنطقة مثلما جاء بنص الاتفاقية.
تقول "إسرائيل" إنها
لن توقع على معاهدة منع إنتشار الاسلحة النووية ولن تتخلى عن التسلح النووي إلا في
إطار اتفاقية سلام أوسع مع الدول العربية وإيران تضمن لها سلامتها وأمنها... فأين
الضامن لإيران والمنطقة إذا ما تجاوزت "إسرائيل" الخطوط الحمر، فهي قد
فعلتها أكثر من مرة تحت ذريعة حماية أمنها القومي أو الدفاع عن النفس، ولم يعط هذا
الحق لباقي دول المنطقة مع وجود تأكيدات بأنها قد أمتلكت السلاح النووي، وإنها
عضوا بالوكالة الدولية للطاقة الذرية إلا إنها لم توقع على معاهدات منع أنتشار
الاسلحة النووية. فكيف ستتعاطى إيران وفق منظومة الاتفاق النووي مع الحرب
الالكترونية ؟؟ التي سبق وأن أعترفت "إسرائيل" بأنها قد شنتها ضد حواسيب
المفاعل مثل الهجوم الذي تعرض له المفاعل النووي الإيراني عام (2009)، والذي تقول فيه
(لقد اختارت "إسرائيل" أن تشن حربًا إلكترونية على إيران، وعليها أن تواجه الحرب نفسها
وألا تلوم سوى نفسها)... فهل سيكون الرد من جنسه مسموحا لإيران أو سيكون فخا لجر
إيران والمنطقة لحرب عالمية ثالثة مثل ما بشر هنري كيسنجر عندما قال أن طبول الحرب
تدق الآن فى الشرق الأوسط وبقوة ومن لا يسمعها فهو بكل تأكيد "أصم"."،
و "أن إيران هى ضربة البداية في الحرب العالمية الثالثة التي سيتوجب فيها على "إسرائيل" قتل أكبر عدد ممكن من العرب واحتلال نصف الشرق الأوسط".
وبعد هذا كله على الدولة
العراقية وسياستها الخارجية أن تتعامل بمستوى براغماتي مثل ما تفاعل المفاوض
الإيراني لضمان مصالح بلده مع الدول الست والتي رجحت كفتي التوازن الإقليمي وما
نجم عنه من متغيرات جيوسياسية وستراتيجية تجعل من العراق عائما وسط تلك الامواج،
التي تستوجب منه السعي بشكل جدي أكبر نحو تمتين علاقاته مع الاطراف الإقليمية التي
سعت إيران لكسب ودها وكذا مع الفواعل الدولية وأولها الولايات المتحدة الأمريكية
لتفعيل اتفاقية الأطر الاستراتيجية وإنفاذ قرارات مجلس الأمن فيما يخص محاربة
التنظيمات القاعدية الداعشية بالعراق والمنطقة، وفتح أبواب الاستثمار والدعم
المعنوي والسياسي وإعادة إعمار المناطق التي تم تحريرها وما سيحرر بعد ذلك، ولا
سيما نحن نعيش ضائقة مالية وعجز بالموازنة العامة قد يتكرر واقعه مع موازنة عام
2016 ولهذا سنحتاج الى تأجيل التزام العراق مع دولة الكويت بدفع التعويضات
المفروضة علينا... والسعي الحثيث بعد هذا الصلح بالتعاضد مع دول المنطقة وإيران
لمنع إنزلاق المنطقة والعراق نحو حرب طائفية سعت الى تأجيجها تنظيمات داعش
الإرهابية في أكثر من دولة.
فهل يتمكن صانع القرار
السياسي العراقي من تجنيب العراق وشعبه المزيد من المآسي التي أحدثتها بربرية داعش
والتناكف السياسي الداخلي، وعدم استقلالية قراره السياسي، والأستعداد لمرحلة
التغيير والتوجه صوب الاصلاح والبناء بعيدا عن محاور التحول والحفاظ على العراق في
وسط كفة الميزان ليتمم حلقة الوصل لاستقرار المنطقة مثل ما فعلت دولة عُمان بأكثر من
جولة دبلوماسية...
باحث في الشؤون السياسية
والاستراتيجية
بغداد- 26 تموز 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق