الخميس، 8 أكتوبر 2009

أخذ العرب على محمل الجد (2-4)

مارك لا ينش
ترجمة الباحث: أمير جبار الساعدي

وعلى الرغم من ذلك وخلال النصف الثاني من عقد التسعينات ظهر نوع جديد وحقيقي لعالم الإعلام كالقنوات الفضائية التي وفرت مناظرات محلية متباينة في مختلف الأقطار العربية. وتشتت العرب كليا في منافسات إعلامية بارزة ومتماسكة وعامة ومتطورة سهلة المنال لكل فرد. ولان الأنظمة العربية كافحت لفرض سلطتها على الإعلام المحلي، ظهرت وسائل إعلام محلية كمواقع بديلة للمناظرات السياسية الصريحة والرنانة.
ولما كان الإعلام في عقد الخمسينات يخدم الدول القوية فان وسائل الإعلام الحديثة(التلفزيونية منها والصحافة) قد صورت نفسها، وبنية مقصودة، الناطق الرسمي للرأي العام العربي مخيبة أمال كل الأنظمة العربية ولا تدين بالفضل لأي منهم. واستطاعت صفوة الصحافة العربية، والتي تتخذ لندن مركزاً، الفرار من السيطرة الحكومية المباشرة، بينما اقتربت من الكتاب والصحفيين من كل مكان في العالم وسمحت موجزات الأنباء التي تبثها المحطات الفضائية بانتظام مع إصدارات الصحف المتزايدة على صحف الانترنيت(للشباب اليافع الذي تداولها)، لتصل إلى عدد كبير من الجمهور لذلك سرعان ما بدأت المحطات التلفزيونية الوطنية المحافظة والسياسية الرزينة بفقدان حصص الأسواق والأهمية السياسية. فقد كان الرئيس اليمني علي عبد الله صالح أشهر من أعترف أنه يشاهد قناة الجزيرة، الشبكة الفضائية التي تتخذ من قطر موقعا لها، بانتظام أكثر مما يتابع التلفزيون اليمني الرسمي.

من السهل الشك بالادعاءات ذات التأثير الثوري لقناة الجزيرة ونظيراتها من القنوات، لكن في هذه الحالة وضعوا المتعة في مكانها الصحيح، فخلافا للمحطات القديمة والتي ركزت على الرقص والمسلسلات التلفزيونية وضعت قناة الجزيرة، منذ انطلاقها عام1996، السياسة في المرتبة الأولى حيث تتضمن عروض المناقشات فيها وبوضوح ممثلين من مختلف الأطياف، مشجعة بذلك النقاش الذي يصنع مادة تلفزيونية ويثير الجمهور الذي لم يعهد مثل هذه الألعاب النارية. ويركز مثل هذا المتنفس الإعلامي التحولي طبيعيا على قضايا تهم العرب بشكل واسع محولة بذلك الثقافة العربية السياسية إلى مرحلة متطورة.
ويظهر الآن وبصورة منتظمة العديد من المفكرين البارزين والشخصيات السياسية ذات النفوذ القوي في العالم العربي الإسلامي(مع بعض الشخصيات الأجنبية) على برامج القنوات التلفازية الفضائية أو يزودون صفحات الجرائد اليومية بمقالاتهم. لقد حثت منافذ الإعلام الجديدة النقاشات بين أصحاب الآراء والقراء، حيث يصوغون بذلك المصطلحات المستخدمة في المناظرات ويصوغون مفاهيم الأخبار. وتعد مشاهدة التلفزيون وقراءة الصحف إحدى شؤون الحياة اليومية حيث تصبح المقاهي، خلال الأزمات، صالونات سياسية حقيقية، تناقش بها وتقارن وبصخب ما راءته عيونهم من التغطيات الإعلامية التي تبثها القنوات الفضائية.
لم تعد الحكمة التقليدية التي ترددها وسائل الإعلام الغربية ببساطة على المستوى الرسمي هذه الأيام، تثبت صحتها. فقد أثارت قناة الجزيرة فعلا حنق كل حكومة عربية في موقف أو أخر، حيث تسمح في برامجها بالانتقاد بل حتى بالسخرية، حيث يرفض المعلقون بانتظام الأنظمة العربية الموجودة، وتوصفهم بغير النافعين والباحثين عن مصالحهم الشخصية والضعفاء والمساومون والفاسدون بل إنها تنعتهم بالأسوأ. ففي إحدى حلقات برامج تبادل الآراء التي تبثها قناة الجزيرة، اتخذت هذا السؤال موضوعا لها:(هل أصبحت الأنظمة العربية الحالية أسوء من الاستعمار؟) وكانت النتيجة إن المضيف وأحد الضيوف و 76% من المتصلين أجابوا بالإيجاب، معلنين بذلك عن علامات الإحباط والغضب المدفون الذي يتوق إلى مخرج نحو التغير الإصلاحي.
قد تكون قناة الجزيرة من الرواد في هذه الصيغة الجديدة، لكن نجاحها هذا حث على خلق ثورة من الأخبار والمناقشات السياسية التي تبحث عنها أسواق القنوات الفضائية الإعلامية العربية. انه حقل شديد المنافسة مع القنوات السعودية MBC ، والقناة اللبنانيةLBC- الحياة، قناة حزب الله، قناة أبو ظبي، والقنوات الأخرى التي تتنافس مع الجزيرة على المركز الأول. تتلهف المحطات على التميز والتنويع في برامجها حيث يسعى البعض منها نحو حصص الأسواق بالدخول بما وصفه العالم، مأمون فندي بـ(الإباحية السياسية) للآراء المتطرفة والتخيلات الفظيعة بينما اتخذ البعض الأخر صورة الجدية لتجذب إليها رجال الأعمال المتحررون(الكوزموبولتيين). فقد فاجأت قناة أبو ظبي، مثلا بما فعلته حلال حرب العراق باتخاذها مناهج الموضوعات الحسية المثيرة.

حكاية حربين…
لقد أنشئت وسائل الإعلام العربية الحديثة وبشكل متزايد أطرا روائية مهيمنة يفهم الناس من خلالها الأحداث. وبطريقة ما فقد أدى غياب الديمقراطية الحقيقية في المنطقة بالمنافذ الإعلامية الحديثة لتكون أكثر قوة وذلك لأنهم يواجهون قلة من المنافسين الحقيقيين في وضع البرنامج العام. ولذلك ينبغي على أي منهج مغال للرأي العام العربي أن يقلل تركيزه على الشوارع والقصور ويركز أكثر على المشاركين في هذه المحافل العامة الحديثة وجمهورها.
وبدا إن إدارة بوش أدركت هذه الضرورة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر2001، إذ بعثت بعدد كبير من الذين يمثلوها للظهور في برامج قناة الجزيرة، ولكن الحماس المبكر فسح المجال للشعور بالإحباط والغضب الشديد لما تقدمه الشبكة من تغطية متعاطفة مع تنظيم القاعدة والتغطية العدائية للسياسات الأمريكية تجاه أفغانستان والعراق. وان ضغط الإدارة الأمريكية على الجزيرة لإخضاع أشرطة بن لادن للرقابة قد حول دعاية حرية التعبير إلى مهزلة في نظر العرب، ورغب الصحفيون العرب عن تلقي نصائح عن الموضوعية من الولايات المتحدة حيث يلصق مقدمو البرامج الأعلام الأمريكية على شعاراتهم.
لكن تجاهل الجزيرة ونظرائها لن يجعلهم يبتعدون. وبدلاً من الاستياء والابتعاد عن هذه الشبكات، ينبغي على الولايات المتحدة محاولة تغيير عناصر النقاش في العالم العربي وذلك بالعمل من خلال هذه الشبكات وفتح حوار صادق. وسيتطلب القيام بلك بفعالية إلى أكثر من مجرد إرسال المزيد من المسؤولين للظهور في برامج حوارية ويرجع السبب في ذلك بالأخص إلى إن جميع حالات الظهور هذه في الأغلب لا يؤكد سوى على أسوء الآراء المكررة للمشاهدين. إذ عرضت الجزيرة في الفترة الأخيرة برنامجاً يظهر استطلاعاً حياً يجمع الأصوات حول السؤال التالي"هل تعمل الولايات المتحدة كقوة امبريالية في العراق؟" وكلما أطال المسؤول الأمريكي البارز السابق في الكلام، زادت الأصوات القائلة نعم حتى وصلت نسبة المصوتين بنعم الى 96% بنهاية البرنامج.

وبغض النظر عما يعتقده البعض، فان هذه العدائية ليست قضاء وقدر ولا شيئا لا يمكن تغييره. فقد عبرت شرائح واسعة من الجماهير العربية عن تعاطفها مع ضحايا11 ايلول2001 وقدمت نخبة وسائل الإعلام نقاشات دقيقة حول مضامين الهجمات. وقد اصدر الشيخ يوسف القرضاوي(الذي حظي بشهرة اكبر بظهوره المتكرر عل قناة الجزيرة) وخمسة من رجال الدين المعتدلين فتوى تدين الهجمات الإرهابية وكونها بعيدة عن الإسلام وتدعو إلى اعتقال ومعاقبة مرتكبي هذه الهجمات… ومثل هذا تدخلاً رائعاً لم يحظى إلا باهتمام بسيط في الغرب. وكذلك لم تثر الحرب في أفغانستان معارضة عالمية( رغم إن العديد ساورهم الشك في بادئ الأمر حول المزاعم الأمريكية عن مسؤولية بن لادن عن الهجمات الإرهابية).أما نقطة التحول في الرأي العام العربي فكانت سلوك رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون في إعادة الاحتلال الدموي للضفة الغربية في ربيع عام2002، ورافقه غضب وصل أشده أثناء المعركة حول جنين.
وقلما أثارت تصريحات فريدة غضب العرب بشدة مثلما فعل وصف جورج بوش لشارون، والقتال في ذروته، انه"رجل سلام". وجاءت هذه اللدغة الصوتية بعد تكرارها بشكل متواصل في الإعلام العربي لترمز إلى عجز الولايات المتحدة على فهم حساسيات الشعور العربي. وقد دفع الغضب الشديد الموجه بالتساوي ضد الولايات المتحدة لفشلها في التدخل، وضد الحكام العرب لفشلهم في التحرك، دفع إلى خلق جو صدم حتى المراقبين المعتدلين للرأي العام العربي. وأصبحت المقاطعة الواسعة للبضائع الأمريكية رغم عدم أهميتها الاقتصادية جزءً لا يتجزأ من الحياة السياسية والثقافية في العديد من الدول العربية. كما سجل المطرب المصري الشعبي شعبان عبد الرحيم ضربة كاسرة بأغنيته المعادية لأمريكا "الهجوم على العراق". وبحلول آذار عام2003 تحول العديد من الإسلاميين الذين دعموا الولايات المتحدة ضد تنظيم القاعدة. ومنهم القرضاوي. إلى الدعوة إلى الجهاد للدفاع عن العراق ضد الهجوم الأمريكي.
ولعدة سنوات كانت قضية العراق جنباً إلى جنب مع فلسطين قضية الهاجس العربي المشترك. وقد أصبحت التغطية الضخمة والمتواصلة لشبكة الجزيرة لغارات عملية ثعلب الصحراء عام1998 التي حصلت الجزيرة من خلالها على متابعة جماهيرية ودعم لمعاناة الشعب العراقي تحت العقوبات، كل هذا أصبح مبدأ تعريفياً للهوية العربية والإسلامية الجديدة. وهكذا فليس مصادفة أن يستند بن لادن على قضية العراق وفلسطين كقضية جوهرية مضمونة لتعبئة الغضب العربي. كما كان هناك إيمان راسخ أن الولايات المتحدة كانت المسؤول الأول عن المعاناة الإنسانية الهائلة للشعب العراقي وهو ما ترك معظم العرب مشككون حول مشاعر القلق على تحريرهم.

ليست هناك تعليقات: