جون بيلجر
ترجمة الباحث:أمير جبار الساعدي
ولكن لم يحصل شيء من هذا القبيل في قضية ايدي. كل هذا لأنه أسود وفقير. وبدا على الحكومتين الفيدرالية ونيوساوث ويلز علامات الرعب حال اقتراب موعد الألعاب الأولمبية. فقبل ثلاثة أسابيع من حفل الافتتاح ردت حكومة هوارد على تقرير إدانة آخر من الأمم المتحدة حول صحة السكان الأصليين بعد منع زيارات مفتشي الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وإعلان أنه لن تكشف مرة أخرى أما لجان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.ووصف النائب العام لقضايا التمييز التي أثارتها الأمم المتحدة بأنها"قضايا بسيطة وهامشية".وطالب مسئولو اللجنة الأولمبية الأسترالية الذين كانوا قد سمحوا لنشطاء من السكان الأصليين بإقامة "معرض ثقافي وطني" قرب الملعب الرئيسي، طالبوا الآن بتوقيع تعهد يحظر "الخطابات السياسية والمظاهرات والمسيرات في الموقع أثناء الألعاب.وهدد المديرالعام لسلطة التنسيق الأولمبية بفرض "عقوبات" إذا ما انتهكت الشروط الخاصة وحذر من أن السلطة " تحتفظ بحق إعادة النظر بنص جميع المادة علنا بغض النظر عن النص الذي يشرح أعمال الدورة".
وحققت الألعاب نجاحا باهرا بوصفها مشهداً رياضياً والفضل يعود في جانب كبير فيه إلى آلاف الأستراليين، فكان فوز كاثي فريمان بسباق الـ400متر. وذكر مايكل مانسل"إنها وحدت عواطف محددة، فقد جلبت السعادة للبيض وقدمت لشباب السكان الأصليين نموذجا يحتذي به. وبالنسبة للبقية ممن يحاولون إخبار العالم عن الحقيقة والعار وراء الشعور بالسعادة، فقد خرجنا بعدة أمور، ولكن لم يكن لنا من نظير للقوة الماحقة الأولمبية". وبعد انتهاء الألعاب بحثت عن تشارلي بيركنز الذي اختفى بهدوء وهذا ليس من شيمه. فبدلا من قيادته لـ"مسيرة العار" تسلل الى مستشفى السرطان الذي كان يتلقى فيه العلاج لسنوات. واتصلت به في سريره وسألته عن الذي فعله.فقال" أنصت يا صديقي، لقد وصلت الى سن الستين وهذا رائع جدا بالنسبة لساكن أصلي". وتحدثنا عن الماضي حيث اعتاد المجيء الى لندن ومكالمتي من مطار هيثرو ويقول" تعال مع الصحافيين يا صديقي فهناك مظاهرة في (الستراند)Strand خارج البيت الأسترالي ستكشف للبريطانيين مع معرفتي عن استراليا شبيهة بجنوب إفريقيا" وأسأله مع معرفتي بجوابه عن عدد الذين سيذهبون.
" أنا وأنت".
ومات تشارلي في اليوم التالي وتوقفت سيدني لأجل مراسم جنازته. لقد كان مثيرا للإعجاب: وجمع لنفسه عددا من الأعداء كذلك لأنه أشار دون تردد الى مجتمع أبيض لم يناصره أبدا. وعندما منحته جامعة سيدني شهادة دكتوراه فخرية متأخرة الاستحقاق، استغل المناسبة لمهاجمة الساسة؛ والآن مات. وكرموه تملقا له. لقد كان تشارلي بمثابة مارتن لوثر كنغ استراليا. ومك دودسن رجل آخر من رجالات النهضة، وفرد من مجموعة مثقفة من ناشطي السكان الأصليين ممن يفهمون مجتمع البيض أكثر مما يفهمه هذا المجتمع نفسه. وكونه محاميا، فقد كان مفوضا للعدالة الاجتماعية وعمل في اللجنة الملكية حول الوفيات في السجون. أخبرني مرة"أنهم يعرفون، أقصد البيض يعرفون أن الأشياء التي تصور استراليا للعالم بكل ذلك الوضوح والتميز هي أشياء من صنع السكان الأصلين. وسيقولون "حسنا سنقبل ثقافتكم لوضعها في خزانة العرض، ولكننا نكره مك دودسن هذا، فكثيرا عليه أن يصبح ناشطا. أو "نحن سعداء بوجود مسرح بانغارا للرقص المعروف عالمياً، ولكننا لا نريد أي شيء من المنظمات السياسية التي تكافح من أجل حقوق الأرض. وبالمناسبة لن تدفعنا للشعور بالذنب، فليس هناك ما تستطيع فعله مع هذا الجيل". ودائما ما يكدر رئيس الوزراء ذلك.. وقد تكون هناك بعض الحقيقة في ذلك فيما مضى. أقصد انه يمكنهم ادعاء بعدهم عن الماضي. أما اليوم فليس من استرالي حي يستطيع ادعاء البراءة لأن البرلمان قد أقر قانون تعديل لقب الساكن الأصلي لصالح غالبية هذا البلد، وهذا أكبر عمل مزيد للنهب في حياتنا.
"وأعتقد أن هناك شعورا كبيرا بالذنب، ولكنني أرى غضبا حقيقيا موجه ضدنا- استياء من أننا لم نمت في الوقت الذي كان من المفترض بنا أن نموت. وقد تسأل نفسك: لماذا لم يسمح لنا بتحقيق انتصار واحد فقط؟ ما الأمر؟ هل السبب هو معرفة خاصة بنا ان تحقيق العدالة سيعني وجود تجاهل الهراء الذي يقول أننا وصفاء ووجوب تقبل هذا على أساس مجتمع البيض قد تصدع بقوة وان هناك استراليا أخرى؟. أما (بات) أخ (مك) فأكثر هدوء ولكن ليس أقل غضبا.وعين بعد إرساله إلى مدرسة إرسالية للرومان الكاثوليك وهو في العشرينات من عمره كأول قس كاثوليكي من السكان الأصليين. بيد أن كونه ساكنا أصليا تعارض مع التدرج الهرمي للكنيسة: وعين مسئولا عن إرسالية قرب دارون، وتعرض للانتقاد لإدخاله إصلاحات أحيت شعائر السكان الأصليين. وترك منصبه وانضم إلى حركة المطالبة بحقوق الأرض، ولحيته الكثة الجميلة وقبعته ذات الحافة العريضة مألوفة لكثير من الأستراليين وبضمنهم ساسة سعوا بغباء الى استغلاله واستبداله، إذ أساءوا فهم "اعتداله" لأجل الكرم، ورغبة في تناسي أنها جزء من طبيعة السكان الأصليين وحين التقيت بات للمرة الأولى وصف لي قوة السكان الأصليين بأنها "قامت على حقيقة أننا ناجون من نوع فريد. فأنت ترى بعد سنوات من القتل الجماعي.. هناك جزء من العبقرية لم ينطفئ داخلنا رغم كل ما حصل لنا.هذه العبقرية ليس معناها الذكاء البالغ ولكن عبقرية من نوع خاص بحاجة إلى احتضان ورعاية وظهور أكثر وأكثر نحو النور". لقد كان يشير بذلك إلى الروح البشرية. وينظر الكثير من الاستراليين باهتمام شديد للظلم الاسترالي. ويظهر التقرير إن غالبية كبيرة ترغب "بعلاقات طيبة" وتوقيع "كتب اعتذار" والانضمام لمسيرة تضامن كبيرة تعبر جسر ميناء سيدني. وليس بكاف كذلك السعي إلى "تسوية الخلافات" وهو مصطلح يثير جدلا عند استخدامه مع خلفية من الاحتلال والسرقة المصاحبة للعنف. العدالة والإرادة السياسية فحسب يمكنها إنهاء عار استراليا الموجع. الخطوة الأولى هي عبارة عن معاهدة، أو وثيقة وطنية للحقوق في جميع الولايات تضمن حقوق الأرض وحصة مناسبة في الموارد. وتتمثل المعارضة في الدافع السياسي للرافضين؛ إنها ما يخافه أصدقائهم الحكوميون، فهي تعني اعتبار السكان الأصليين سواسية ومن نوع خاص. لقد عرضت سبع وعشرون دولة أخرى في الأقل تحقيق العدالة لشعوبهم الوطنية بصيغة معاهدة أو صيغ أخرى.وكتب كولن تاتز ان "كل من كندا والولايات المتحدة قد نسبوا لقب "الشعب الأول" للهنود، واعترفوا بهم بوصفهم انه كان لهم الإحتلال والسيادة والحكم الأول،واشتركوا معهم في حوار حقيقي حول معاهدات ومواثيق اعادة التفاوض". وفي الوقت الذي أقرت فيه نيوزايلاندا المجاورة حقوق الأرض والبحر لشعب ماوري، فقد أنفقت حكومة هوارد في استراليا ملايين الدولارات في إثارة الجدالات الفنية في المحاكم ضد نفس حقوق الأرض والبحر.مع ذلك فقد شهد عام 2001 نصرا عظيما. فقد الغي قانون العقوبات الإلزامي في الأرض الشمالية والذي كان قد زج بطفل من السكان الأصليين في السجن لسرقته بسكويتا ووصفته الأمم المتحدة بالعنصري، ألغي بعد مدة قصيرة بعد فشل ادارة الأرض العمالية في الإنتخابات.زينت الأعلام في عام2002 صحف استراليا بسبب انضمام الجيش بقيادة القوة الجوية الخاصة المحلية(SAS)،للقوات الأمريكية في "حربها ضد الإرهاب" في افغانستان. ولا أحد يدري ماالذي تفعله هذه القوات هناك؛ فاستراليا ليست في حالة حرب مع أي دولة. لكنها في حرب مع اللاجئين المتوجهين نحو شواطئها. وقد تهيأت القوة الجوية الخاصة البطلة منذ الحادي عشر من أيلول 2001 لمنع الرجال والنساء والأطفال المنكوبين من النزول على أراضيها، ومن ثم دفعهم باتجاه جزر المحيط الهادي النائية (حيث تنتشر الملاريا). أما من نجحوا في الوصول لاستراليا فقد تلقوا معاملة تفتقر للإيمان بالنسبة لمجتمع ينادي بالقيم الإنسانية.
واضطر اللاجئون الى الانتحار والتجويع وحرق الممتلكات والهروب الجماعي اثر حبسهم خلف اسلاك شائكة في واحدة من أكثر مناطق الأرض عداوة في معسكرات الإعتقال تحت أي تعريف، بادارة أمريكية متخصصة في سجون الحراسة المشددة (تصل ارباحها الى 387 مليون سنويا). وكشفت دراسة ان معظم اللاجئين تعرضوا لمعاناة شديدة قبل شد الرحال راجعين لديارهم. ومن بين الثلاث والثلاثين نزيلا الذين تم استجوابهم، تعرض تسعة عشر شخصا للتعذيب وفقد تسعة فردا من عائلاتهم على الأقل عن طريق القتل أو "الإختفاء". وكتب روبرت ماني الأستاذ في جامعة لاتروبي في ملبورن "لقد تطلب من اللاجئين في مناسبات عدة عيش الرعب الناجم عن تجربة كهذه في استجوابات مسؤولين جهلة يقولون صراحة أنهم لا يصدقون القصص التي يروونها.وتتألف حياة اللاجئين من تفقد نهاري وتعداد ليلي في الساعة الثانية والخامسة صباحا تحت نظام من العقوبة الإستبدادية تتراوح بين منع الزوار وإجرا المكالمات الهاتفية الى الحبس الإنفرادي،وأسوأ من ذلك. لقد حصل الأستراليون على لمحة من حالات الرعب هذه التي ترتكب بإسمهم وذلك حين قدم برنامج في هيئة الإذاعة الأسترالية قصة شايان بدرائي الصبي الإيراني البالغ من العمر ستة أعوام. فقد قضى ربع عمره خلف أسلاك معسكر ووميدا في صحراء استراليا الجنوبية ورأى هناك أشخاصا يائسين أحرقوا أنفسهم وشاهد رجلا انتحر بتقطيع نفسه بالسكين. وقال لوالده "اعتقد أنه مات ".الوالد هذه الكلمات كانت آخر ما نطق به. فقد رفض الطعام والشراب بصمت وحزن تلو الآخر وراح يرسم صور الأسلاك الشائكة.
أما الوزير المسؤول عن المعسكرات فهو فليب رودك،ذات الرجل الذي افتخر امامي ان عدد وفيات الأطفال الرضع من السكان يبلغ ثلاثة اضعاف معدل وفيات الاطفال البيض"لاأكثر". وحين سئل عن شايان بدرائي في التلفزيون أشار إليه بضمير النكرة و"الشاب" واعتقد ان مشاكله سببها ان المرأة في العائلة لم تكن أمه الحقيقية. وقال ان الحل الأفضل للصبي كان التبني في إشارة الى إعادة والده إلى إيران.
ويتكشف زيف الخوف السياسي والشعبي من قضية اللاجئين إذا علمنا أن أستراليا تستقبل أقل عدد من طالبي اللجوء السياسي "غير الشرعي" في العالم: إذ يقدر عددهم بحوالي 4000 شخص في السنة. وتستقبل استراليا ثلاثة أرباع هؤلاء في نهاية الأمر ولكن ليس قبل تعرضهم للسجن لمدة غير معلومة في معسكرات وصفها رئيس الوزراء المحافظ السابق مالكوم فرير بأنها "حفر الجحيم". وحين أخبر مسؤول في منظمة العفو الدولية رودوك عن الظروف المروعة في المعسكرات في جزيرة ناورو في المحيط الهادي التي تلقت حكومتها من استراليا رشوة لإيداع اللاجئين الذين قدموا بقواربهم، رد الوزير مازحا: "هل تعتقد أنهم سيفضلون البقاء في أحد مراكزنا للإحتجاز في هذا المكان؟".
وتختلف معاملة المهاجرين البيض "اللاشرعيين" اختلافا كبيرا. ففي عام 2001 تجاوز 6.160 بريطانيا على مدة الإقامة المحددة في تأشيرة الدخول وكذلك هو الحل للعديد من الأوربيين. وتقبض السلطات على أكثر من 14 ألف شخصا كل عام، دون أن يذهب أي أحد منهم الى معسكر إحتجاز. إذ يمنحوهم " تأشيرة إضافية" لإتاحة الوقت لهم لكسب ما يكفيهم من أجل العودة لديارهم. ويقال أن "الموقف المتشدد" من "التهديد" المشترك الذي يمثله اللاجئون الضعفاء والإرهابيون غير المرئيون قد منح حكومة هوارد نصرها في إنتخابات تشرين الثاني عام2001. إذ تصدر صحيفة "إيج"Age في ملبورن العنوان الرئيسي الحزين الآتي: هل أستراليا بأمان؟. وهناك ترابط ما بين الهستريا الزائفة فيما يكون المكان الأِمن على هذا الكوكب وبين "الموقف المتشدد" ضد شعب السكان الأصليين الأقلية التي تمثل حوالي 2% من إجمالي السكان. وحين علق الملاكم انتوني موندين من السكان الأصليين في التلفزيون ان الأمريكان "جلبوا الإرهاب لنفسهم بسبب ما فعلوه خلال التاريخ، كان على وشك الإعدام دون محاكمة أنه مسلم. ونظرا لـ "كلامه الخائن"، على حد تعبير الشماتة من قبل عضو الفريق الإعلامي المنادي بالإعدام من دون محاكمة، والرسالة تقول ان مركزه الوظيفي الدولي الواعد انتهى".ان مأساة الاستراليين الساعين الى الفخر في الشخصي بما حققه بلدهم هو جهلهم بالماضي السياسي المميز الذي يثير الفخر في جوانب كثيرة منه، ولكن نادرا ما سمعنا عن قصصه المدمرة الجميلة التي شكلت الشخصية القومية.وفازعمال مناجم (بروكلين هل) للفضة والزنك في نيوساوث ويلز بالمركز العالمي الأول في عدد ساعات العمل الأسبوعية،إذ تبلغ 35 ساعة،أي بفارق نصف قرن عن كل من أوربا وأمريكا. لكنها تقبع في موقع المؤخرة من العالم من حيث الحد الأدنى للأجور ومساعدات الأطفال والتقاعد وأصوات المرأة في الإنتخابات.وافتخر الأستراليون في الستينات بأعدل توزيع للدخل في العالم. وشهدت خلال سنين حياتي تحول استراليا من مجتمع انكليزي- ايرلندي وسيط الى أحد أكثر أماكن التنوع الثقافي في العالم، وحدث ذلك بسلام. رغم أن ما حدث قد يكون نتيجة اهمال في بلد أدت فيه "سياسة أستراليا البيضاء" دورا غامضا لدرجة أن رئيس وزراء أستراليا وهو بيلي هوغز كان الزعيم الوحيد الذي رفض التوقيع على إعلان عالمي يعترف أن جميع الأعراق متساوية. فإذا أخذنا
هذا الماضي بنظر الإعتبار وطبقا لمعظم مقاييس الحضارة فإن التحول يعد إنجازا باهرا. ولا شك أن الأستراليين الأوائل لا يشملهم ذلك. فحضارتهم غير الطبيعية وتوحدهم مع أرض قديمة لا تدرس على أنها مصدر للإفتخار القومي. ويبقى شملهم في كل ذلك، وهو في طور الإنجاز، مفتاح الأمة لنفسها. التقيت قبل بضعة أعوام زعيم السكان الأصليين روب ريلي، وهو رجل لا يمكن نسيانه ذو ابتسامة عريضة ساخرة ولحية سوداء كثة ونظارات بإطار قرني. وتكلم ببلاغة وبراعة عن حقائق قاسية بصوت رقيق. وبعد ان يأس من "التنافس مع الساسة في التسلق نحو الدرك الأسفل"، اختط لنفسه طريقه الخاص في الحياة شأنه شأن العديد من أبناء شعبه. وكنا تبادلنا الحديث حول الإحتفال المتواصل "بالهوية" الأسترالية في المناسبات التاريخية والحملة الإنتخابية للجمهوريين والأحداث الرياضية المهمة. وقال لي "هذا بسيط، فما لم تعيدوا لنا هويتنا فلا هوية لكم".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جون بيلجر الكاتب والصحفي والمنتج التلفزيوني الأسترالي المقيم في بريطانيا
* الكتاب ترجم ونشر في مركز الدراسات الدولية جامعة بغداد سنة 2003.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق